مقالات

هل الابتلاء للمؤمنين عقوبة؟ كتب م. ياسين طاهر الأغا

الحمد لله  في سنن الله مع الأنبياء والمرسلين والأمم المستضعفة ، فإن النصر المبين يأتي بعد بلاء عظيم ، ولأننا والله أعلم على أبواب قيام الخلافة على منهاج النبوة والذي بشر به نبينا عليه الصلاة والسلام ، فإن الله سبحانه لا يعطي هذه الخلافة بدون تمحيص واختبار، الله سبحانه إذا اصطفى نبيا أو أمة أو جماعة فانه سبحانه يصنعها على عينه ويصطفيها لنفسه ، والاصطفاء الرباني بحسب سير الأنبياء، وبحسب آيات القرآن المجيد معناه أن يصب الله على هذا النبي أو هذه الجماعة العذاب صباً، وكلما خرجت من محنة دخلت في محنة أعظم.

 عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ نِسْوَةٍ، فَإِذَا هُوَ قَدْ عَلَّقَ سِقَاءً يَقْطُرُ عَلَيْهِ مِنْ مَائِهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» صحيح البخاري.

عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، حَتَّى يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، ذَاكَ فَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ - وَقَالَ مَرَّةً: أَشَدُّ بَلاءً - وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ - وَقَالَ مَرَّةً: عَلَى حَسَبِ دِينِهِ - قَالَ: فَمَا تَبْرَحُ الْبَلايَا عَنِ الْعَبْدِ، حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ - يَعْنِي - وَمَا إِنْ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ) مسند أحمد.

فعندما ترى شخصا أو جماعة والابتلاءات لا تبارحهم ، فذلك دليل على صدق إيمانهم وقوة دينهم ، وأنهم على عين الله يصنعهم ويرعاهم بمعرفته.

 وفي هذه الابتلاءات والمحن فوائد كثيرة قد لا نعلمها إلا في أزمنة لاحقة ولعل من ذلك : خروج ضعاف الإيمان وضعاف الهمم من الصف لعدم قدرتهم أو لعدم صدقهم ، ومنها أن تزداد هذه الجماعة قوة وصلابة وبأسا ، ومنها أن يراجع هؤلاء أخطاءهم ويصوبوا مواضع النقص والقصور عندهم ، ومنها أن يمحق الله الظالمين الذي تسببوا في الأذى لهؤلاء المتقين.

 ولنزيد هذا الأمر وضوحا ببعض الأمثلة :
لقد شاء الله لفرعون أن يتسلط على بني إسرائيل بقتل أبنائهم وإيقاع الأذى بهم ، واستمر ذلك قرابة الأربعين عاما ، إلى أن شاء الله بالفرج بإرسال موسى عليه السلام لينقذ بني إسرائيل ، فكانت النتيجة إبادة شبه كاملة للفراعنة حتى أنه يقال أن الذين انطبق عليهم البحر زادوا على المليون ونصف بحسب ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ، فكان الجزاء من جنس العمل ،أراد فرعون إبادة بني إسرائيل فأباده الله وجنوده وقومه . فهل كان أطفال بني إسرائيل مجرمون لينتقم الله منهم بقتلهم ؟ !!! أم هو الابتلاء والتمحيص الذي يتبعه النصر المبين والفرج  الواسع ؟

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) الأعراف

  لقد نسب الله سبحانه ما حل ببني إسرائيل من بلاء إلى ذاته سبحانه ، مع أن الذي يقوم بالقتل فرعون وجنوده ، لكن الله يخبرنا بأن الأمر كله تم بمشيئة الله ، وأنه لو أراد سبحانه أن لا يكون لم يكن.

وسيدنا يوسف عليه السلام ألقي في السجن لمدة زادت على عشر سنين ، فما هي الجريمة التي ارتكبها يوسف عليه السلام ليمكث في هذا العذاب كل هذه الفترة ؟ ، لم يكن دخوله السجن عقوبة بل كان تهيئة له ليكون رئيس وزراء مصر ، وهذه مرتبة لها توابع هائلة لا يستطيعها من عاش مرفها داخل قصر ولا يدري ما الذي يجري خارجه ، ففي داخل السجن فئات متنوعة من الناس ، منهم المظلوم ، ومنهم القاتل ، ومنهم اللص والمختلس ، ومنهم غير ذلك ، كل هؤلاء خالطهم سيدنا يوسف عليه السلام وتعلم منهم الحلم والحكمة والصبر على الأذى ، وخرجوا معه أناس صالحين اعتمد عليهم في القيام بشؤون مصر ، وفي خارج السجن أي عند فرعون ومن معه حدثت تطورات أيضا هيأت للوقت الذي سيخرج فيه  يوسف عليه السلام ، فخرج من السجن في الوقت الذي علم الله فيه أنه أصبح مهيئا لما قدر الله له أن يكون.

 وسيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام قبل توجهه إلى المدينة ، عاش محنة عظيمة هو ومن معه ، بأن تم حصارهم في شعب بني هاشم لمدة ثلاث سنين ، ألف يوم كاملة ، عاش فيها عليه السلام أياما قاسية منع عنهم الطعام حتى أكلوا جلود الميتة والأشجار الجافة وغير ذلك ، فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرما حتى يعاقب بهذه العقوبة القاسية ؟، أم كانت التهيئة له ولمن معه ليكونوا حكام الدنيا بعد ذلك ؟!!! .

  قال عتبة بن غزوان وهو يخطب في البصرة : ولقد كنت سابع سبعة مع رسول الله  ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ولقد أصبحنا وما منا إلا أمير ولقد رأيتني وسبعة أصبنا بردة فشققناها بيننا.

وروى له مسلم في صحيحه :
(ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى تقرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار).

وعن قيس عن سعد قال :
( رأيتني سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة أو الحبلة حتى يضع أحدنا كما تضع الشاة ).

وهنا أمر آخر بالغ الأهمية : من المقصود فعلا بالحصار ؟ هل كان هذا الحصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ هل يعقل أن الرسول عليه السلام لن يصبر على البلاء فيأتي الله سبحانه برسول آخر يكون أصبر منه ؟! أم أن بلالا الذي كان يجر على رمضاء مكة فيقول: أحد أحد سيسقط في الاختبار نتيجة الحصار ، أم هو اختبار للمشركين من بني هاشم الذين صبروا مع الرسول عليه السلام للعصبية الجاهلية ؟

لا شك أن الحصار أحد أشكال البلاء المختلفة والتي توالت على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فكان درسا بليغا في الصبر والرضا بقضاء الله ، فالذين آمنوا أرادوا بإيمانهم بالله ورسوله ما عند الله والدار الآخرة فلم يؤثر فيهم خسارة الدنيا وما يصيبهم فيها من البلاء والنصب ، فخرجوا من الحصار إلى الانتصار ومن الضيق إلى السعة والتمكين.

وهذا ما يجري الآن لأولياء الله الصالحين على أرض فلسطين وفي غيرها من بلاد الإسلام ، فليست المحن والحصار دليلا على غضب الله ولا على إجرام المؤمنين ، ولكنه التهيئة لحكم الأرض وإقامة العدل بين الناس.

ونرى ونسمع ما يفعله اليهود في الفلسطينين وغيرهم من أنواع الظلم والقهر المختلفة والتي توجب كلها غضب الله وانتقامه ، فهل اليهود أفضل عند الله من المسلمين في فلسطين وغيرها ؟ بالطبع لا فلا يستوي الكافرون المجرمون الظالمون مع المستضعفين المسلمين ، ولكن يجب على هؤلاء المسلمين أن يثقوا في ربهم ويستعينوا به وحده ويعدوا ويستعدوا، فإن تولوا يستبدل ربنا جيلا آخر غيرهم يكونوا أقرب إلى الله وأصدق في إيمانهم وسعيهم ، فيمنحهم الله أسباب القوة والنصر على عدوهم ، وعسى أن يكون ذلك قريبا.

 وفي كثير من بلاد المسلمين نرى المجرمين وهم يقتلون ويحرقون ويسجنون ويبطشون بالمؤمنين بطش جبارين ، وقد غرتهم قوتهم وإمهال الله لهم ، فهل هؤلاء المجرمون أفضل وأقرب إلى الله من عباده الركع السجود ، والذين تم ذبحهم وحرقهم في المساجد والميادين والدور؟ !!

وأحسب والله أعلم أننا في زمن اقتربنا فيه من تحقيق وعد الله للمؤمنين بالفوز والظفر ، فهم الآن يعيشون فترة الاختبار النهائي والذي عادة ما يكون أشد الاختبارات صعوبة ، كما قد يكون أطولها زمنا ، وبحسب ثبات المؤمنين ويقينهم بوعد الله يكون النصر قريبا ومبينا.

  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُون (6)  القصص.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) النور.

 وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)  إبراهيم.

 وواضح من هذه الآية الكريمة أن التمكين للمؤمنين لن يكون إلا بعد فترة الخوف.

وفي الحديث الشريف : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: " بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " (1) مسند أحمد

وقد فسر العلماء اللأواء بما يصيب المؤمنين من قتل وتشريد وتعذيب وسجن  وغيرها من الابتلاءات التي تؤذيهم ،ولكنها تقويهم وتكون سببا لنصرهم وتمكينهم .

 لذلك فإنني أدعوا أهلنا في غزة وفي فلسطين بأن يثقوا في وعد الله بالنصر والتمكين ، ولا يهولنهم قوة اليهود ومن أيدهم ، فكل ما يملكونه من عند الله ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) ) الإسراء.

 فكل ما يملكه أعداء الإسلام من إمكانات بذلوا فيها جهدا عظيما للحصول عليها ، والله سبحانه لا يمنع المجتهد أن ينال ثمرة جهده وجهاده سواء كان مسلما أم كافرا ، ولكن الله مع ذلك وعد عباده النصر برغم إمكاناتهم الضعيفة إذا هم بذلوا جهدهم وأعدوا واستعدوا وكانوا من المتقين ، وصدقوا مع الله وتوكلوا عليه حق توكله.

نسأل الله سبحانه النصر والتمكين لأهلنا المرابطين على أرض فلسطين المباركة ، وللمرابطين في كل ميادين الجهاد لنصرة الإسلام والدفاع عن الحق .
والحمد لله رب العالمين.

م. ياسين طاهر الأغا 
20-4-2014م                

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على المهندس الزراعي ياسين طاهر حافظ عثمان الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد