مقالات

حكايةُ الغُربةِ بين الأدبِ والسياسة

 بقلم الدكتور: خالد فتحي خالد الأغا 

بسم الله الرحمن الرحيم

   لما انْقدَح زناد الفكر بحديث الغربة تزاحمت بالورود عليه جملةٌ من الموضوعات؛ ينتسب كلٌّ منها إليه بصلة، فبين الإنسان وخلقه ورحلته في الحياة وما يصنعه بنفسه من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، وما يتبع ذلك من التزامات عقيدية ونفسية وأخلاقية، بين ذلك كلِّه روابط آخذٌ بعضها بزمام بعض، وإن صورت سعةُ الحياة وتكاليفُها للإنسان عكس ذلك، بل إن كثيراً من الناس من يميل إلى تصديق انتفاء الروابط لأنه يرى فيه وسيلة للتخفيف من أعباء الحياة، غير أن حقيقة الأمر خلافُ ما تَوَهّم.

الإنسان في فلسفة الوجود غريبٌ في رحلة الحياة، فالغربة لازمة له منذ تكوينه إلى رحيله عن الدنيا، ومن أعظم صفات الغربة انتفاء الاستقرار، وما دام الإنسان يُولَدُ ليموتَ فلا بد له في نهاية رحلته من دار قرار يحصد فيها ما جناه في غربته، والآيات الباهرة في خلْق الإنسان برهانٌ منطقي على أنه خُلِق للبقاء لا للفناء، فإن من تأنّق وأبدع في صنع شيءٍ فإنما يريد له الخلود على قدر تأنقه وإبداعه فيه.

وكأن صفة الغربة لما كانت لازمة للإنسان في وجوده سرى أثرُها في جميع مكوناته، فتبدت في أقواله وأفعاله ونتاج فكره، كما تبدّت في جسده وروحه وعقله، وما لبثت أن أصحبت فلسفةً في المجتمع الإنساني الذي يشكل الإنسان عنصراً أساساً فيه.

الأمر الذي يجب ملاحظته هو أن منشأ الغربة في تكوين الإنسان خروجُه عن الدور الذي هُيّئَ له، وهو دور ملائم لمواهبه وقدراته واستعداده، وعلى هذا فيمكن أن يقال: إن الإنسان صانع للغربة بنفسِه، لكنّ استصحاب هذا الأصل في منشأ الغربة مهم، فَبِهِ يمكن التفريق بين الغربة السوية والغربة الزائفة، وبين ما يُمدح من الغربة وما يذم.

ومن الطبيعي مع وجود المُشترك الإنساني أن يوجد اشتراك في مفهوم الغربة بين بني الإنسان، فالحديث عن آلام الغربة ووحشتها، والنأي عن الديار، والتشوق إلى الأهل والأحبة، لُحْمَةٌ لكل ثقافة وأدب، حيث نشأ عن ذلك ما عرف بأدب المهجر، وأدب المنفى، وأدب الغربة، ففي العصر الحديث مثلا، وفي أوائل القرن العشرين ظهرت مدارس أدبية مختلفة مع هجرة أبناء الشام (سوريا ولبنان) إلى أمريكا والبرازيل، وقد تأثر أدب الهجرة هذا بالعوامل الاجتماعية والأوضاع السياسية التي كانت تكتنفه، كشأن كل أدب نشأ في الغربة عبر تاريخ الإنسان الطويل، ومن المُتوقع أن تولّد موجاتُ الهجرة الأخيرة – التي تخللت العشر الثانية والثالثة من القرن الحادي والعشرين الذي نحن فيه- مدارس ومذاهب جديدة، خاصة في ظل تقارب الزمان والمكان ووسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في اندماج الثقافات وتلاقح المفاهيم.

   أما ما وراء المشترك الإنساني؛ فثمة غربة لن يستقيم وصفها بالغربة إلا مع استصحاب أصل منشئها الذي سبقت الإشارة إليه، وهي غربة لا يتصف بها ولا يعيها إلا قلة من البشر، هم أعمق نظراً، وأثبت جَناناً، وأرحب صدوراً، أتت غربتُهم من النظر إلى مصلحة المجتمعِ الإنساني كله، المجتمعُ الإنساني الذي أنتج عبر تاريخه في كثير من الأحيان- بتخليه عن الدور الذي أنيط به- من المفاهيم ما يُناقض الأخلاق والقيم، ثم ما برح بعد لأْيٍ أن صادمَ الفطرة الإنسانية في المذاهب والسياسات والأخلاق، كما في نتاج الرأسمالية والشيوعية، وكما يُشاهد اليوم من التجنّي على إنسانية الإنسان بالترويج للشذوذ وإباحة المثلية، فهذا كله وما يُشابهه مما أحدثه البشر أو يمكن أن يُحدثوه خروجٌ عن وظيفة الإنسان ودوره في الكون، بل هو خرقٌ لقوانين البقاء والاجتماع الإنساني، فأصدق الأمثلة مُطابقَةً له المثال الذي شبّه القائمين على رعاية القوانين الإلهية والكونية والواقعين فيها المتجاوزين لحدودها بقوم تُقلّهم سفينة واحدة، استهموا على سُكناها، فكان بعضهم في أعلى السفينة، وآخرون في أسفلها، وكان الذين في أسفلها كلما أرادوا أن يستقوا من الماء صعدوا إلى الأعلى، فاجتمع رأيهم على أن يخرقوا في قاع السفينة خرقا ليستقوا منه الماء، فإن أخذ الآخرون على أيديهم ومنعوهم نَجَوْا جميعا، وإن تركوهم وما يريدون هلَكُوا جميعا، وهذا تشبيه بلغ النهاية في البلاغة والتقعيد لسياسة المجتمعات والأمم، فالإنسانية كلها تعيش في سفينة واحدة، وما يقع لطائفة منها يسري أثره في جميعها بحكم المشترك الإنساني ولا بد، ولذلك دعت مصلحة اجتماعهم إلى قانون يرعى مصالحهم ويضمن رُقيّهم والتزامهم بدور الاستخلاف الذي أنيط بهم، فإن وقع عدوانٌ من بعضهم على السفينة التي تُقلهم فذلك نذير هلاكهم، فلم يبق لهم إلا الأخذ على يد المعتدي وحجزُه عن مراده كائنا من كان، لأن التهديد الآن طال الوجود والبقاء، فمهما بلغت تكاليف الحجز فهي دون تكاليف الخَرْقِ على كل حال.

والظاهر من سياق التشبيه في الحديث أن التمثيل بخرق السفينة يُراد به خرق القوانين والسنن التي تحكم وجود الإنسان وحركته، وهي السنن الكونية القدرية التي لا تأتي السنن الإلهية الشرعية إلا مطابقة لها تمام المطابقة، ومن ثم فإن الخرق يقع للاثنين معاً.

كما دل التشبيه على أن أعظم الخروق ما هدم الأصول والقواعد، وأن ثمة فئات في المجتمع الإنساني من الأفراد أو الدول والأمم لا تأبه إلا لما وافق هواها من المصالح، وهذا هو واقع كثيرٍ من القرارات والقوانين والسياسات التي أنتجها أولئك؛ ولا يزالون ينتجونها، ومع كونها مصادمة للأصول هادمة للقواعد فإنها لا تخلو من السببية والتعليل، كما علل سلفُهم في المثال خرقَ السفينة بتجنب المرور على من في أعلاها إذا أرادوا الماء، وهو تعليلٌ يوهِمُ مَن في أعلاها بأنّ مصلحتَهم مقصودةٌ من التصرف بالخرق قصدا أوليا بإراحتهم وترك إزعاجهم، وهذا شأن سياسات الأهواء دائما، منذ أن خُلق الإنسان،  ومنذ أن وُجدَ على ظهر الأرض،  فإنها لم تزل على دأَبِها هذا من تزوير الظاهر وتزويقه، حتى نشأ لها في العصر الحديث مراكز بحيثية ودراسات جامعية وأكاديمية، وصيغت لها نظريات وقواعد، ما برحت أن انتقلت آثارها إلى المفاهيم والممارسات.

إن ما تعيشه دول الشرق اليوم، وعلى رأسها العالم الإسلامي والعربي هو صراعٌ حقيقي مع جملة من المفاهيم والممارسات التي أفرزها (حزب الخَرْقِ)، وعلى حكماء الأمم اليوم، وفي مقدمتهم حكماء الأمتين الإسلامية والعربية أن يواجهوا في شجاعة وثبات هذه الهمجيةَ المحمومةَ التي تريد أن تجعل من نواقضِ الفطرة والإنسانيةِ أمرا مقبولا، فهي بمعنىً آخر تريد أن تقنع البشريةَ اليوم بضرورة خرق السفينة، زاعمةً أنه خرقٌ في مصلحة الإنسانية والإنسان.

العبءُ الأكبر من هذا يقع على عاتق علماء الأمة المسلمة ومفكريها، لأن هذا -قبل كل شيء-مطلوب منهم شرعا وقدرا، ولأنهم يمتلكون من مصادر العلم والمعرفة كنزَين لا وجود لهما عند غيرهم من الأمم، غير أن التصدر لهذا يحتاج إلى أمرين:

  • فقه في قراءة الوقائع والحوادث، وما أنتجها من المذاهب والأفكار، لا يقف في قراءته عند ظاهرها فحسب، بل يرجع إلى منشأها، ويتتبع تاريخها، ومراحل تكونها، والعوامل التي أثرت فيها، ومدى تأثيرها في القريب والبعيد.
  • وفقه واعٍ يَقِظٍ في قراءة نصوص الشرع، مراعيا كلياته ومقاصده التي جاءت لمصلحة البشرية كافة، على اختلاف الحال والزمان والمكان، وعلى اتساع الحاجات وتنوعها وتجددها.

ولا يسعنا في هذا المقام أن نتلقف ما ينتجه غيرنا من نظريات وحلول دون مراجعة وتمحيص، وعرض على الميزان الذي أنعم الله تعالى به علينا، وقد وقع لأمتنا من ذلك في عصري الرأسمالية والشيوعية ,وما عاصرهما من المذاهب ما يكفي للدرس والاعتبار والاستثمار، أما استبدال الوافد الدخيل بالميزان الأصيل فربّما سدّ في ظاهر الأمر خرْقا، لكنه فتقَ آخر.

ولما بلغَ المقالُ هذا القدر صبيحة السابع والعشرين من شهر يوليو عام 2022 بلغني خبرُ وفاة والدي من ليلة ذلك اليوم غريبا مهاجرا في كندا، بعد خمسين عاما قضاها موجها تربويا ومعلما في المملكة العربية السعودية، فكان التوافق بين حديثي عن الغربة في المقال وخبر وفاته غريبا نائيا عن دياره قد شطّ به النوى من عجائب المقدور،  ولم أسُقِ الخبر هنا لأَفِيَهُ بعض حقه، بل لهذ مقام آخر بإذن الله، وإنما سقته للعبرة، وقد عقدت عنوان المقال: حكاية الغربة بين الأدب والسياسة، فما قُدر لوالدي مظهر من مظاهر هذا المعنى، فإنه بعد أن أنهى دراسته الجامعية في مصر عام 1963، عاد إلى قطاع غزة مدرسا إلى احتلاله عام 1967، ثم هاجر إلى الأردن، ومنها إلى المملكة العربية السعودية، فقضى من عمره هناك خمسة عقود، وما كان يظنُّ بعد أن ذوت زهرة شبابه هناك أن الغربة ستدفع به إلى تركيا، ثم ستدفعه الدفعةَ الأخيرة إلى حيث مثواه الأخير، فلولا حكاية السياسة لما كانت هذه الفصول التي صاغت الرواية، ولولا الغربة لما استخرجت الشدائد أجمل ما فينا، ولا يزال تلاقح السياسة والأدب ينتج لنا من الغربة ألوانا وألوانا يصطبغ بها وجه الحياة، فيبدو عابسا تارة وباسما تارة أخرى، والله يخلق ما يشاء ويختار.   27-7-2022  

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الأستاذ خالد فتحي خالد حسين قاسم الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد