مقالات

شتاء التكنوقراط


24/02/2006

كان هذا الأمر قبل زهاء العام وبالتحديد في فبراير 2005 عندما انضم إلى موضة المصطلحات والتقاليع التي يزخر بها مجتمعنا مصطلح جديد له بريق خاص وجاذبية غير عادية هذا المصطلح الذي خرج رئيس الوزراء السابق " أبو علاء" واصفاً به حكومته التي شكلها آنذاك ألا وهو مصطلح حكومة التكنوقراط، وكما هو معلوم فإن مصطلح التكنوقراط الذي يتكون من كلمتين هما (تكنو) أي خبير ومتخصص و(قراط) أي حكم، ليصبح مفهوم المصطلح أن توكل الوزارة وقضايا الشأن العام إلى ذوي التخصص والمهنيين. إن مجرد التفكير في ذلك يعتبر ميزة لا يختلف حولها اثنان خاصة وأننا نعتبر كياناً جنينياً في مرحلة التشكيل والتكوين على الرغم من مرور 12 سنة على ولادة هذا المولود الذي لا يملك سوى اليسير من مقومات التنمية و التطور.

لقد تغنى قريع انذاك بحكومته العتيدة حتى رسخ لدى الكثيرين الاعتقاد بأن هذه الحكومة ستسترجع الأمن المفقود، وأن خلطة التكنوقراط السرية ستحقق الاستقرار المنشود، وأنها ستمكننا من القضاء على دنس اليهود، وتقينا بعد كل ذلك من عين الحاقد الحسود...!!!

بعد 365 يوم بالتمام والكمال عقدت فيهم الحكومة أكثر من 50 اجتماع تبين أن التكنوقراط وحده لا يكفي، وهذا ما ثبت بالبرهان من خلال كشف حساب لهذه الحكومة التي بدا جلياً أنها مكبلة بالحسابات الخاصة والتوازنات، مقيدة بذات العقلية السابقة، فلم يتغير في المجمل إلا أسماء الوزراء لكن السياسات والقواعد العامة بقيت كما هي بل على العكس تدهورت الأمور وازداد الفلتان وأصبحت التكنوقراط التي تغنى بها المسئولون أصبحت سلماً يرتقيه الوصوليون واستتر خلف اسمها البراق مقاولو الفلتان الفاسدون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. على الرغم من أن بعض الوزراء الجدد قد أثبتوا شيئاً من الكفاءة والقدرة على العطاء والبناء المؤسسي أمثال وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات د. صبري صيدم و م.مازن سنقرط وزير الاقتصاد الوطني.

يبدو أن موسم مصطلح التكنوقراط يكون في أواخر فبراير من كل عام فكما ظهر هذا المصطلح السنة الماضية في نهاية الشتاء ها هو يطل علينا من جديد في نهاية شتاء هذا العام أيضاً والحديث يدور حول تشكيل الحكومة الجديدة التي قيل أن الصفة الغالبة عليها ستكون صفة التكنوقراط. إننا ونحن على أعتاب مرحلة جديدة نأمل أن تكون أفضل، فإن علينا أن نستفيد من الرصيد الزاخر من الأحداث والتجارب التي مرت بنا ونستخلص العبر مما مر بنا من عثرات، وندرس بعمق أسباب ومسببات ما عانيناه من زلات، ونتجنب ما أدمانا وعصف بنا من كبوات.

أقول صحيح أننا نحتاج إلى تكنوقراط لكني أعتقد جازماً أن التكنوقراط وحده لا يكفي، فكلمة السر للخروج من السلسلة اللامتناهية من التخبط والعشوائية يكمن في تغيير تطوير النفسيات والعقليات، لا بتبديل الأسماء والمسميات، والتغني بالألقاب والشعارات، فمصطلح التكنوقراط وعلى شاكلته الكثير من المصطلحات مثل الشفافية والإصلاح وسيادة القانون و...و...و..، لا تعدو كونها شعارات خداعة ومصطلحات سرابية إن أفرغت من مضمونها.

لقد برهنت التجارب أنه ليس شرطاً أن يبدع من يحمل درجة الدكتوراه في الطب إذا أنيطت به حقيبة الصحة. صحيح أنه قد يبدع لكن بتصوري فإن سر إبداعه لا يكمن فقط في كونه يحمل درجة علمية عالية في الطب بل لأنه يمتلك مقومات ومتطلبات الإبداع وهي كثيرة إحداها درجته العلمية لكن أعلاها أمانته وخشيته من الله. وهذا ما يدفع لاقتراح مصطلح آخر بديل وهو مصطلح (البايوسقراط) المكون من كلمتين هما بايوس pious أي تقي وورع أما الكلمة الأخرى فهي قراط وتعني حكم، لتصبح الكلمة ككل بمعنى حكم التقاة الورعين المخلصين والمهنيين أيضاً لأن التقي النقي الورع لن يقبل المنصب العام إلا إذا علم أنه سيكون قوياً قادراً على القيام بأعباء المسئولية الملقاة على عاتقه. وعليه يحمل مصطلح البايوسقراط معنيي القوة والأمانة التي أشار إليهما عز وجل في كتابه " إن خير من استأجرت القوي الأمين "

لا أريد أن يساء فهم ما أطرحه بأنني أريد أن يحكمنا مشايخ لا يمتون بصلة إلى العلم أو التخصص أو أن يصبح مثلاً أستاذ في الفقه المقارن وزيراً لتكنولوجيا المعلومات، لا وألف لا بل أعني أن هناك عدة معايير يجب أن توضع لشاغر المنصب العام خاصة إذا كان المنصب قيادياً مفصلياً أهم هذه المعايير التقوى والإخلاص والأمانة ونظافة اليد ونصاعة التاريخ والقدرات الإدارية والدراية الفنية. إننا نحتاج أن نقيم أداء الشخص المرشح للمنصب العام خلال عمله السابق وندرس النجاحات التي حققها وكذلك الإخفاقات، ولكن للأسف فإن كثيراً ممن تم تعيينهم في مناصب عامة مرموقة لم يتذوقوا لكلمة النجاح طعماً على امتداد عمرهم الطويل!!!.

إن فلسطين قد سئمت رؤية ذوي السجلات السوداء يتصدرون المواقع ويتقدمون الصفوف، فمن حق فلسطين هذه الحسناء أن يمثلها ويتحدث باسمها حسان اليد والمعالم حسان الماضي والحاضر، تريد فلسطين من يقتنع أن المنصب العام أمانة وأنه يأتي يوم القيامة خزي وندامة إلا لمن حفظ تلك الأمانة.

عذراً، فأنا لا أقصد من حديثي أن نعيد عقارب التاريخ 1400 عام إلى الوراء، ولا أسبح في مثاليات خيالية بل أعني أن نسترشد بنماذج نجحت في ذلك، نماذج كالنجوم الذين بأيهم اقتدينا اهتدينا، فعمر بن الخطاب مثلاً لم يكن يحمل درجة الدكتوراه في القانون ولم يكن أستاذا جامعياً في الإدارة ولم يكن يعلو كتفه طناً من النجوم والنياشين، لكنه على أرض الواقع كان مدرسةً في القانون وخبيراً في الإدارة وقائداً لا تلين له قناة ولا يشق له غبار، فقد كان أميناً يحاسب نفسه على تعثر دابة على بعد آلاف الأميال منه، ويوبخ أحد ولاته وهو عمرو بن العاص على مظلمة ميكروسكوبية ارتكبها ابنه بحق أحد الأقباط في مصر فأين نحن من معشار ما فعل هؤلاء؟؟

لقد انشرح صدري عندما رأيت د.عزيز الدويك هذا الرجل الذي رأيته لأول مرة وهو يتحدث أمام المجلس التشريعي الجديد رأيته يتحدث بأدب المسلم وموضوعية العالم وعقل الخبير وثقة التقي ، هذا ما رأيته فيه من أول يوم لكن المحك الحقيقي لحكمنا النهائي عليه يكون بالممارسة الفعلية للأعمال والمهمات وقدرته على البذل والعطاء فإن كان كسابقيه – لا قدر الله - فلن نخسر شيئا، وإن وفقه الله فعندها سيثبت أن مصطلح البايوسقراط أكثر جدوى ممن سواه.

إننا حقاً نحتاج إلى خبراء لكننا نحتاج أكثر إلى من يرتجف ويضطرب حينما يضع يمينه على القران ليقسم اليمين نريد من يتقاطر الإخلاص والصدق من لسانه وهو يردد القسم الدستوري فأمثال هؤلاء حتى وإن لم يكونوا تكنوقراط إلا أنهم سيسهرون ويسهرون ويستعينون بالخبراء والعلماء والشرفاء وقبل ذلك بالدعاء والرجاء من الله أن ييسر لهم تأدية مهامهم فمن يتق الله يجعل له من أمره رشداً.

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الدكتور جواد سليم إبراهيم سليم الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد