مقالات

رحمانيّات ربانية -29- منة الله- أ. المنتصر بالله حلمي الأغا

بسم الله الرحمن الرحيم
 رحمانيّات ربانية 29 
منّة الله

الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والتوبة ومعرفة الخيرات وإتباعها ، أنه هو السميع العليم المجيب . 

|رحم الله تعالى المسلم برحمات لا تُحصى يكتسبها إمَّا بقولٍ أو فَعْلٍ ، وقد يكون ذاك بفعلٍ أو قول بسيط ولكن فضله وثوابه عظيم . والمؤمن يحرص على الارتقاء بميزان حسناته في الدنيا ليجده أمامه في الآخرة ، وذلك بسلوكٍ أو عملٍ طيبٍ أو كلمة طيّبة مع الآخرين ليجده أمامه يوم القيامة برحمةٍ من الله تعالى . من أجل هذا يتحرّى المؤمن سلوك فعل الخيرات التي تطمئن بها نفسه ويطمئن إليه الآخرين وعلامة ذلك رضى النفس وسكونها ، وهو يراقب تلك النفس الأمّارة بالسوء لإدراكه أن كل ما ينطق به يُكتَب ويُسَجَّل له أو عليه مصداقاً لقول الله تعالى في سورة ق آية(;18);:‘‘ وَمَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ’’ .
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ‘‘ إذا أصبح بن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان تقول : اتِّقِ الله فينا فإنّما نحن بك : فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا ’’ ، فسائر أعضاء الجسد تُعَذَّب يوم القيامة بحصاد اللسان وما يصدر عنه من قول سيّء أو غيبة أو نميمة أو كذب . فاللسان كما يُقال : أنه ترجمان القلب .
وقال الحكماء : ثلاثة يزرعون المقت لأنفسهم في قلوب الناس ويوجبون السخط ويهدمون ما يبنون ولو كانوا أقرب الناس إليه :
أولهم : المشتغل بعيوب الناس لأنه يزرع المقت في قلوب الناس له
وثانيهم : المعجب بنفسه لأنه يوجب سخط الناس عليه ،
وثالثهم : المرائي بعمله يهدم ما يبني ولو كان بناؤه صحيحاً .

وثلاثة يزرعون المحبة في القلوب ويرِثُون العافية والمنزلة في أهل السماء:
أولهم : صاحب الخلق الطيب يزرع المحبة في قلوب الناس ،
وثانيهم : المخلص بعمله يتجمل ويُلبَس ثوب العافية ،
وثالثهم : المتواضع يرث المنزلة في أهل السماء .

والله تعالى لم يمنَّ على عباده المؤمنين بكل النِعَم التي أنعمها عليهم ، إلاّ بنعمتين ، فالله تعالى لم يمنَّ على عباده بأن أعطاهم الصحة والمال والعز والجاه وكل النعم التي يتنعّمون بها في الحياة الدنيا ، ولكنه جلَّ شأنه منَّ عليهم بنعمة الإيمان ، وبأن أرسل إليهم رسوله الكريم سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وذكر الله تعالى جلَّ شأنه تلك النعمتين في القرآن الكريم في موضعين :

1. قال الله تعالى في سورة البقرة على لسان سيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام آية(;129);:‘‘ رَبَنا وَابْعَثْ فِيهِم رَسُولاً مِنْهُم يَتلُواْ عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلَّمَهُم الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهم إنَّكَ أنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ’’ ، فاستجاب الله تعالى تلك الدعوة فمنَّ على المؤمنين وأرسل إليهم رسولاً منهم من جنسهم وعلى لغتهم هو سيّدنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم ليهدي إلى سواء السبيل بعد أن كانوا في الضلالة فقال تعالى في سور آل عمران آية(;164);:‘‘ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِـينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أنفُسِهِمْ يتلُواْ عَليْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَّكِيهمْ وَيُعَلّمَهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وّإنَّ كانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ’’. 2

. المنّة الثانية من الله تعالى على عبادة المؤمنين هي النعمة الكبرى ، ‘‘ نعمة الإيمان ’’ ، يقول تعالى في سورة الحجرات:‘‘ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(;17);’’ . والمسلم المؤمن عبد شكور يتعلق بنعمة الإيمان ويتحسسها بالسلوك والعمل السويِّ وبالكلمة الطيبة لأن من حُسْنِ خُلُقه أن يقول الكلمة الطيّبة تحبباً إلى الناس ، والكلمة الطيّبة صَدَقةً يُؤجر عليها المؤمن فيكسب رضا الله ويبعده عن غضبه ، ويؤثر بها ويكسب الناس ومحبتهم ، ولا يدرك هذا إلآّ من تلذذ بتلك النعمة فيشعر بسعادة داخلية في نفسه يعكسها على غيره من الناس فيزيده الله رضاً وسعادة يعكسها على سلوكه اليومي مع الآخرين ما استطاع ، آنذاك يشكر الله تعالى ليل نهار ، أمّا الكلمة السوء وسوء الخُلُق فتبعدنا عن الناس ولو كانوا اقرب الأقربين .

والكِبرُ آفة كبرى آخر طريقها جهنم والعياذ بالله ، وفي الدنيا ضنكاً ونكداً . والمُبتلى بآفة الكبر معجب برأيه لا يقيم وزناً للآخرين ، فيضع الله تعالى الكراهية أو عدم المحبة والبعد عنه في قلوب الناس له ، فالبعد عنه ، لذلك فحامل ثوب الكِبر هو الخاسر الوحيد ، وهنا عليه مراجعة نفسه ليرتقي مع ثلّة المؤمنين ، وربما هذا بعض ما قصدناه في المقال السابق ‘‘ المراجعة ’’ ، أمّا المؤمن فلا يطيق أن يبقى وحيداً ، لذلك هو يعرف طريقه . يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فَسَعُوهُم بأخلاقكم ’’ ، وفي رواية أخرى:‘‘ فسعوهم بِبَسْطِ الوجه والخُلُقِ الحَسَن ’’ . وفي الحديث عن أبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ لا تَحْقِرَّنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ ’’ ، فالابتسامة في وجه الآخرين صدقة والبعد عن الكِبْرِ وهضم حقوق الناس والتكبّر عليهم من سوء الخلق ، والمؤمن يجمع بحُسْنِ خٌلٌقِه مثل تلك الحسنات بقليل من الجهد - التي يحسبها البعض قليلة - ولنا أسوة حسنة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي قال:‘‘ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبرٍ ’’ – او كما قال - ، فقال رجلٌ : إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، قال صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ إنَّ الله جميل يحب الجمال ، الكِبْرُ بَطَرُ الحق وغَمْط الناس ’’ ، و‘‘ بَطْرُ الحق ’’ : أي دفعه وردّه على قائِلِه ، وغَمْط الناس : تعني احتقارهم وازدرائهم . وهذا الحديث يعني : أن كلَّ أمرُ الله تعالى جميلٌ ويرضَى ويُثِيب من كان أمره وفعله جميلاً ، وهذا هو شأن المؤمن دائماً إن شاء الله تعالى .
والله تعالى حرّم الجنّة على المتكبرين وقرن الكِبْر بالفساد ، فقال تعالى في سورة القصص آية (;83);:‘‘ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةَ نَجْعَلَهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادَاً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ’’.
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ أفضل العبادة التواضع ’’ . من أجل هذا فإن المؤمن يتمسك بهديّة الله تعالى ومنّته إليه ، ويدرك أنه كلما زاد عمره يوماً اقترب من الموت وأنه آتيه في أي لحظة ، فيجتهد في عباداته - والعبادة لا تقتصر على الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقات والتسبيح - فيراجع إيمانه وسلوكه وطمأنينة نفسه وقربه أو بعده من الله سبحانه وتعالى ، لذلك فإن الخوف والرجاء عنده حاضر بين يديه مستهدياً بقول رسول الله صلّى الله عليه وسـلمّ :‘‘ من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شرّه فليجهز نفسه للنار’’ . والمؤمن يُبعد نفسه عن شقاء الدنيا بسلوكه الإيماني والطيب والمرن مع الآخرين ابتداءً من عائلته الصغيرة ومن ثمَّ الناس من حوله ومجتمعه بإبعادها عن سوء الأخلاق والتقرب إلى الله والشكر له على نِعَمِ الإيمان والصحة ومكارم الأخلاق بالإحسان والأعمال الصالحة ، فيُبعد نفسه عن شقاء الآخرة . والله تعالى يتقبل الشاكر على نِعَمِهِ ، والراجي ربّه والعائد إليه بتوبة بأن يهديه للعمل الصالح هو وذريته . والله تعالى يتقبله مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأحقاف:‘‘ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَّقَبَّل عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوًَزَ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أصْحَابِ الجّنَّةِ وَعْدَ الصِّدقِ الَّذي كَانُواْ يُوعَدُونَ (;16);’’ .

والله تعالى يرحم المؤمنين ببعضهم البعض فالمؤمن يساعد أخيه المؤمن في العُسْرِ والضيق والكُرَبْ لإدراكه أن جزاء ذلك عظيم . وروى الطبراني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ إنَّ لله عند أقوامٍ نِعَمَاً أقرَّها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين فإذا ملُّوهم نقلها إلى غيرهم ’’ . ‘‘ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (;127); ربَنَّا واجعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنْتَ التَّوابُ الرَّحِيمُ (;128)’’ (سورة البقرة).

نسأل الله تعالى أن نكون وذرياتنا وأزواجنا من المؤمنين الذين وصفناهم ، وإن كنا غير ذلك فنسأله تعالى أن يهدينا سواء السبيل وأن يجعلنا من تلك الزمرة المؤمنة التي تتحلى بحسن الخلق والأخلاق الحميدة وأن يتجاوز عن سيّئاتنا وأن يتقبلنا عنده بخير أعمالنا وأحسنها ، اللهم آمين ، ونسأله تعالى أن يرحمنا برحمته وأن يتولانا بكرمه وعطفه وجوده ومغفرته وهو ارحم الراحمين ، وأن يرحم أموات وشهداء المسلمين ووالديَّ وأن يرفع درجاتهم في أعلى عليين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصدّيقين وحَسُنَ أولئك رفيقاً ، وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً وساعد في نشر هذه الرحمانيّات الربّانية ، اللهمَّ آمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد